ثلج هذه الايام.
أقبل الثلج وأكثر، فلا تهيجت أشجاني و لا تذكرت أهلي بلبناني.. فأنا ابن ساحل أجرد بالغالب، و إن كانت أصول الريف تغوص عميقاً في دمي.. فأذكر الثلج المباغت الخجول، عندما حط على صنوبراتنا المتنامية.. بدا حينها غريباً و باعثاً على فرح طفولي غريب.. كأنما المرء يحب أن يرى الأشياء بحلة أخرى بألوان غير ألوانها الطبيعية المعتادة.. كأنها رغبة آدمية دفينة بقهر الراسخ و المعتاد و الأبدي.. لون التراب المحروق و الصخور الرمادية.. حتى إذا ما كسى الأبيض البسيطة، كست قلوبنا موجة محو صافية.. إنه ثلج الطفولة الناعم، ثلج المرتفعات و المتثلجين في الصور و الأفلام.. لكن ثلجنا هنا غريب قاسٍ و صلب. ثلج يلتصق بالأبواب، يصد الأرصفة و يغلق الشوارع. تستعين على إزالته بالمجارف لتفتح منفذاً لك بين الأرصفة المقفلة.. أما على الأوتوسترادات المفتوحة، فبات على الألمان أن يجهزوا سياراتهم ليس بسلاسل معدنية، لأنها ممنوعة على الطرقات السريعة، و إنما بأغطية تقيهم البرد القارس، بعدما باتوا يضطرون للإنتظار لساعات طويلة في سياراتهم ريثما تُفتح الطرقات..لكنه ميلاد أبيض في كل أرجاء المانيا، و هذا ما سر الألمان و أثلج صدورهم، لكن شيئاً فشيئاً راح الثلج الجميل يتحول الى كارثة على الإقتصاد، المطارات مقفلة و حركة القطارات تتعرقل، و الاف الحوادث على الطرقات .. .
" من أين يأتي الثلج؟" يسألك الولد مباغتاً، فتحار في نوع هذه الأسئلة فتقول من الغيوم، على إعتبار أن البداهة تكون شافية كما يظن العامة الطيبون، متمنياً أن يكتفي بهذا القدر من إحراج الفكر المتبلد. لكنه سرعان ما يعديك بصنف هذه الأسئلة، فتسأل نفسك: كيف لهذه الغيوم أن تحمل كل هذا الثلج في ثناياها؟ فتتطير من الفكرة، عندما ترسم مشهد عجز هذه الغيوم الطافية عن الصمود امام تكاثر الثلج اللاطبيعي فيها، فتطبق على الأرض. لكنك تتعوذ من شؤم أفكارك الهدامة، و تهدئ من روع نفسك، بأن الأمور سارت على هذا النحو الآف بل ملايين السنين الخالية، و أنها بلا شك المشككين، سوف تواظب على عملها هذا، و إن كان لا ضامن لذلك الركون و الاطمئنان الى حسن سير الطبيعة و قوانينها، الاّ الله وفق ديكارت نفسه صاحب التشكيك الشهير.
لكن ثلج المساء ليس هو نفسه في الصباح، و إن لم أكن خبيراً بتحولات الماء و المادة من هيئة لأخرى، و لكن ما لا شك فيه ان الثلج أنواع، فهناك الثلج الخشن أو الناعم كفراشات القطن، أو المبرّد كحبيبات البرغل. و ربما يُحدد هذه الإختلافات التفاوت في درجات الحرارة، والله أعلم! فهو تارة يسيخ قليلاً، لكنه لا يذوب تماماً، فيصبح لبخاً كالطين، و تارة أخرى عندما تشتد البرودة و تتحرك الريح يصبح جافاً و صلباً و قاسياً، و هذا أشد الأنوع خبثاً لأنه يلتصق بالزجاج و يحوّل الطرقات الى ألواح من زجاج، تتزحلق السيارات عليها و المارة بلا حرج أو رحمة.
مع هذا يبقى الثلج واحدا، أبيض مبهجا لطيفا و خيّرا، لكنه عنيد و ثقيل كذلك، يشد الهمة في اللحظات الأولى لخروجك من البيت، لكن سرعان ما تخور قواك و تفقد شهية العمل الضرورية لتنامي رأس المال و تفاقم النمو العام و الخاص..
ثلج هذاه الأيام يبدو ككل شيء آخر، كالمطر أو الشح أو العواصف أو الفياضات، كلها لم تعد كما كانت في السابق أو على الأقل هذا ما يتراءى لنا، أو هذا ما يحب أنصار التغيير المناخي أن يقنعوننا به.. طبيعة عصبية المزاج، إذا أعطت أدهشت، ثلجاً أو قحطاً أو حراً أو برداً أو سلاما..
هوالمناخ إذاً، الذي على حظنا المتعثر قرر أن يتغير، أي في الحيز المقتضب المسمّى عمرنا أو جيلنا، من سحابة الزمن الفلكية، و بمعزل عن دوافع هذا الإضطراب في المزاج الطبيعي للمناخ العالمي، و الأسباب المسببة له، بشرية كانت أم من فعل الإنسان الصناعي الغاشم، أو تراها دورة تقلبات طبيعية تحدث كل بضعة قرون أو عشرات السنين، لا يبدو أن بمقدور شخص أو مجموعة بعينها الجزم في هذا الأمر، إذ أن القياسات و الحسابات المناخية حديثة العهد نسبياً و هي قد لا تتعدى القرن الأخير من زماننا الميلادي.
أينع التين في الجنوب في هذه الأيام، و كحل لهذا الشطط الطبيعي، تقترح أم حسن جارتنا ان نصدّر بعض شحنات الثلج الفائضة هنا الى لبنان..
ناجي طاهر❤ مدونة قلب العرب ❤