تحجَّجتُ بأنها يجب أن تأتي معي إلى مكتبه لأترك له بعض الأوراق الهامة. لن نبقى إلا دقائق فقط. وضعي حرج وخطوات المطلَّقة محسوبة عليها. سنضع الأوراق عند السكرتيرة ونمشي. المكتب في طريق عودتنا من المدرسة الَّتي نعمل بها. عندي درس خصوصي وسأجد الطلبة على بسطة السلم، لذا يجب ألَّا أتأخر. لن نلتقي به، ولن نتحدث إلى المحامي الوسيم الذي يعمل معه في المكتب، لكنها رفضت كعادتها الذهاب، وتركتني في حيرة من أمري. اختنق لأنها صامدة، لا تتدحرج إلى أيِّ شرك أنصبه لها، هل تفعل ما تقتنع به حقا؟، وترى فيما أقدمه لها عرضا مشبوها لا أمان لها فيه؟
اتفقت معه أمس بالهاتف أن أحاول جر رجلها للقائه بأي شكل. بعد إقناعه بضرورة اشتراكها فيما أفعله إذا كان حريصا على استمرار علاقتي به، ضمانا لصمتها، أو كي توضع في نفس مكاني وتلتمس لي العذر، لكنها محجبة بكثير من التعاويذ. لا تلين أبدا أمام توسلاتي. تقرر بحسم أنها لا يجب أن تذهب قائلة: "هذا مقام شبهة لا أتورط فيه". تتركني أتخبط وأشعر بقلة حيلتي. أبدي عدم اهتمام واندهش من موقفها، وأصبر علها تلين في وقت آخر.
في لحظة احتياج طاغية حكيت لها عنُّه: هو المحامي الذي وضعت ثقتي فيه، ووكَّلته ليرفع قضية طلاقي من زوجي. استطاع أن ينهي حياتي السابقة دون خسائر، بل توصل مع محكمة الأسرة أن يعيد إليّ حقِّي الذي سلبني زوجي إياه. كنت أتحدث إليه كل حين لمعرفة التطورات، وكان يطلبني ليؤكد على ميعاد الجلسة، وكنا نلتقي في المحكمة كل مرة ويوصلني بعدها إلى أول الشارع الذي أسكن فيه.
تسمعني صامتة. يشجعني صمتها على الاسترسال في الحكي، وعلى إخراج كل ما أشعر به. قلت لها: "بعد حين كان الاتصال احتياج يومي كفنجان القهوة الصباحي. إذا لم اتصل به حتى العاشرة صباحا، يرن هاتفي برقمه. يسمع صوتي بين جلستين فيبتهج. مكالمة قصيرة لأنه مشغول. أقدر انشغاله لأني في العمل أيضا. يجب ألا تلحظ أي من المدرسات انهمار الفرحة بمكالمته، لذلك قررنا أن نتحدث ليلا، قبل أن يعود إلى أولاده وزوجته. بعد أن ينتهي من مقابلة الموكَّلين، بعد نوم الصغيرين وإغلاق باب غرفتي على نفسي. ساعة نقضيها معا. نحلق فوق كل شيء، ونرى العالم من أعلى. مرحلة استمرت شهرا، وانزاحت علاقتنا بعدها إلى رغبة كل منا في لقاء الآخر، في مكتبه، أو في شقتي، حتى نجد مكانا آمنا يجمعنا معا.
هكذا حكيت لها كل شيء..
***
منذ ست سنوات. كان طفلي الأول يحبو. تشاجرت مع زوجي كالعادة فلطمني. مشاجرة يومية يتوه سببها بعد حين. اكتشفت بعد خروجه أن مصروف البيت الذي أدبره بإعطائي الدروس الخصوصيّة اختفى. أخذه لينفق على سهرته مع الأصدقاء كعادته، بعد أن ضيع راتبه في العشرة الأوائل من الشهر. سيتركنا نعاني باقي الشهر ليقضي ليلته كما ينبغي. يقول فيما بعد إن ليلة كهذه تساعده على احتمالي باقي الشهر. أُمي لا تعلم ما يحدث لي. تنعم بغفلتها وتتركني أواجه حياة قاسية. اتصلت بأخي ورجوته أن يحضر. سأحكي كل شيء. يجب أن يجد لي طريقا للخلاص. ما معنى الحياة إذا كانت مرادفا للعذاب؟ كان حكيما، يدير حياته بنموذجية تجبرنا على رفعه إلى مكانة المستشار، يحترم زوجته في وجودنا وتعامله بقدسية، لذلك اخترته. حكيت له بمجرد دخوله. استفزني هدوؤه وهو يسمعني، لكنه المثال الذي يحتذى به، والأخ الأكبر الناجح السعيد. بمجرد انتهائي قال: "كلنا نعاني.. ليس هناك علاقة زوجية مستقرة بالمطلق. أنا أكثر زوج يعاني تحت قبة السماء. أنا.. أتعس زوج في العالم، لكن أولادنا، وأشار إلى طفلي وهو يحبو باتجاه ركن الصالة) لا ذنب لهم إذا ركبنا رؤوسنا، علينا أن نضحي من أجلهم". تحدث كما لو كان قسيسا في زيارته الأسبوعية لمنازل الأقباط. رأيته مرة يرشدهم إلى الصواب، يتخذ من تضحياته وسيلة لإقناع الآخرين بقيمة التضحية.. والتفاني.
ألجمني تصريحه. أول مرة يصرح بشكواه. يجب أن أصمت وأحتمل، فهو يعاني في صمت. لم يقل كيف يعاني ولماذا، ولم أقدر على سؤاله. ما صرح به هو المتاح، ما يجب أن يقوله فقط. حتما يعتبر حياته سرا خاصا لا يجب أن يفشيه. يفقد الصبر جماله إذا شكونا. ما سأقدره له ألا يشي لأمي أو أي من أخوتي بشكواي. خلقنا الإنسان في كبد كما قال. يجب أن أحتمل من أجل الطفل، كي تستمر الحياة. لا بأس.. فلا يوجد شخص لا يعاني على هذه الأرض.
كرت الأيام تباعا. وأنجبت طفلتي. جاءت في غفلة من شجارنا، وكلما تشاجرت مع زوجي تذكرت مقولته: "أنا أتعس إنسان على وجه الأرض، لكن الصبر جميل"، إلى أن حدث ما غير مفاهيمي. استيقظت المدينة يوما على خبر زواجه عرفيا من مريضة كانت تعالج عنده. كانت أرملة جميلة. لديها ثلاثة أبناء، تسكن في منطقة هادئة قرب مدخل المدينة الشمالي، يزورها ليلا بعد إغلاق العيادة، ويعود فجرا إلى بيته. لا تسأله زوجته عن أوقات غيابه. هو طبيب، يعيد مرضاه ويجري العمليات الجراحية في أي وقت. استفسر الجيران عن أسباب تردده على الأرملة، تربصوا به عند مدخل بيتها في أحد الليالي. قال إنه زوجها. يحتاج إلى زوجة طيبة. حياته غير مستقرة.لا يقدر على تحملها.
تفتت تمثاله كومة من الرمل أمامي. رمقته بحنق عظيم في أول لقاء لي معه. ولم يفهم أي من أخوتي لم ظللت صامتة طيلة الجلسة التي اجتمعنا فيها لتدبُّر أمر اكتشاف زواجه بهذه الطريقة. لم يتدخل برأي عندما شرعت في إجراءات طلاقي. سار جميع أخوتي على نهجه اعتقادا منهم أن إنهاء زواجي سبيل لراحتي.
***
لا أفهم لمَ تُصر على الصمود. هي زوجة تعيسة، يكبرها زوجها بعشرين عاما. بدأ أولادها يخرجون من دائرة سيطرتها إلى سوق العمل، والصغير في المرحلة الثانوية. لديها وقت فراغ لا تقضيه سوى في لعن حظها العاثر، والندم على ما فاتها من فرص السعادة. حكت لي مرات أنها بحاجة إلى علاقة حقيقية. رجل يفهم كيف يتعامل مع رومانسيتها، وسيم وفي مثل سنها. ها هو الرجل. يعمل في نفس المكتب. صرح لمحاميّ أنه يعجب بها. يتمناها صديقة، بعد أن رآها معي في الشارع. وأعجبه ذوقها في اختيار ملابسها. أعجبه جسمها الفارع وقسماته اللينة. قال إنها امرأة بحق، تلغي الباقيات بحضورها.
خطَّطت أن تلتقي به مصادفة عدَّة مرَّات قبل أن أصارحها. اصطحبتها معي إلى المكتب مرات، والتقت به معي مرة في المحكمة. جلسنا نتحدث، لم يخرج الحوار عن قضيتي لكنه تواصل، نوع من التحجج للأخذ والرد. هذا ما خمنته، وأكده المحامي فيما بعد. مرّة التقينا مصادفةً في محل العطور، وأهدى لكل منا زجاجة عطر فرنسي غال، وقبلت الهديّة دون تردد، فشعرت أن قبولها بداية استجابة.
***
يقول ما لا يفعل، ويكيل بمكيالين. لم يكن الأمر مجرد شعوري بالخدعة، كان أكبر من هذا، أصابني تصرفه بصدمة. تساءلت: هل يفعل الآخرون مثله؟ هل يظل رأيهم ثابتا في حال تبدل أماكنهم؟ منذ ذاك الوقت أضع الآخرين في مأزق الاختبار. أمهد لهم طرق الخطأ وأعاقبهم بداخلي إذا وقعوا في الفخ. ليس الخطأ بالضبط هو ما أقصده، بل اختبار صدق ما يعلنون اقتناعهم به. "تعميق معرفتي سيغفر لي". هذا ما بررت به تصرفاتي. لا أعاقبهم بالحرق، لكنهم لا يصبحون بمثاليتهم الزائفة حجر عثرة في سبيل إقدامي على تصرف ما. ربما كانت وسيلة تسلية، لكنها كشفت لي صدور الكثيرين. زميلي أول من اختبرته، هاجمني في الفصل عدة مرات قائلا: "هي انتهازية، تتاجر بالطلاب وتعطي دروسا خصوصية..لا تعرف رسالة المعلم". لم يقل رأيه لي، وإنما فرده كخريطة أمام الطلاب."أي رسالة يا حمار!. بمجرد أن اشترى زميلنا شقة في أحد الأحياء الراقية أصابتك صدمة، اكتملت بعد علمك بنيته شراء سيارة حديثة أيضا".
جلست جواره وعرضت أن يعطي دروسا خصوصية مثلنا، بعفوية بدت غير مقصودة. ذكرت حالتي المادية قبل تدفق أموال الدروس، كنت اقترض من البعيد والقريب. أكتفي بالفرجة على الأشياء الضرورية ولا أشتريها. أكدت له أن كل الطلاب عندي سيحجزون عنده إذا وافق. سأقدم له مجموعات من الطلاب دون عناء، لقد مدحت طريقته في الشَّرح أمامهم. حكيت عن قدرته على توصيل المعلومة جيدا، عن ضميره المهني الَّذي لن يتركه في راحة إلا إذا وصل بالطالب حتى بوابَّة التفوُّق. نصبت له فخًّا من الملبن حتما سيدخله. لم يوافق على مضض كما توقعت، بل سألني عن كيفية تدبير أمره، وإعداد مذكِّرة يلخص للطلاب فيها المنهج بطريقته الخاصة. ضحكت في سرِّي، وشاهدته وهو يهيم في أحلام الثراء المقبل. لم أهتم بما قاله فيما بعد عنِّي أمام الطُّلَّاب: "معلمة مجيدة.. تعرف الأسئلة المفصلية. وتقود الطلاب إلى ضفة التفوق.".
سقط.. كلهم يسقطون.
***
قصة قديمة. تذكرتها مجدَّدا بعد كل ما سبق. كنت مازلت خريجة جديدة. تبحث عن عمل. قابلته مصادفةً في الإدارة التعليميَّة، عندما ذهبت إليها مع صديقتي "الأنتيم" وقتها لتقديم أوراقي. كان أستاذ الرياضيات في المرحلة الثانوية. قابلني بانبهار، كنت آخر دفعة درسها قبل سفره إلى الكويت في إعارة: "عدت منذ شهور. عُيِّنت في مدرسة خاصَّة، واشتريت فيلا صغيرة"، ضحك وأكمل: "وأبحث عن بنت الحلال". قال: "صرتِ امرأة مكتملة"، وأكمل بتردد "امرأة جميلة". بحدسي عرفت أني رقتُ له. خمنت أنه سيسبقني ليطلب يدي. تساءلت: "هل أقبل الزواج به؟". عاد من الكويت محملا بثروة. مازال شابا، لكن الوسامة لم تعرف طريقها إلى ملامحه. ملت على صديقتي وسألتها: "هل تقبلين الزواج به إذا تقدم لكِ؟". نظرتْ باندهاش وقالت: "يععععع". نسيت الأمر تماما، خاصة أنه لم يتقدم لخطبتي كما تصورت للحظة، لكن اندهاشها انتقل إلي عندما عرفت أنه تقدم إلى أهل صديقتي طالبا الزواج منها.. ووافقتْ دون تردد.
***
الآن ألاعبها بهدوء. لا أحتاج إلى مبرر كي أفعل ما يحلو لي. لكن نتيجة اختبارها تؤرقني، أتمنى أن تدخل فخَّ الملبن الذي نصبته لها بنجاح. ربما سأكتسب شرعية ما إذا أقدمتْ على هذه المغامرة وارتبطتْ بالمحامي الآخر. سأقول لنفسي: "كلهن يقدمن على التَّصرُّف نفسه إذا تشابهت الظُّروف!". لا.. لا أهتم بالشرعية. لا أحتاج إلى مبرِّر. سيسعدني أن تفعل وكفى. "وإذا لم تفعل؟". "لن أفكِّر في رد فعلي الآن إذا لم تفعل. أسألها عن علاقتها بزوجها كي استحضر حرمانها وأوقظه: "ألا تشعرين باحتياج يجتاحك؟". أصمت وأرقب رد فعلها وأكمل: " ألا تجرك الوحدة إلى الجنون؟". تجيب حينا، وتترقرق عيناها بالدموع حينا. ألقي على مسامعِها باقي الأسئلة مستغلَّة حالتها: "مشروع أن تبحث المرأة عن صديق يشبعها. للفأرة حق في البحث عن ذكر، فما بالك بامرأة تنضح جمالا مثلك". تضحك وتستمر في صمتها. أذكر أمامها صفات المحامي. هي تعرفه، لكن ذكره أمامها يروقها "كم هو وسيم.. طويل. كتفاه عريضتان. لو لم أكن مرتبطة بصديقه لألقيت شالي عليه". يسقط الكلام حولها. يتبعثر. ترفض الآن دون مبرر. ألا يروقها الملبن؟ تصمت إذا سألتها عن أسباب إحجامها عن المغامرة، على الرغم من الفرص المتدحرجة عند قدميها!. ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
مع خالص تحياتي ( منى الشيمي )
❤ مدونة قلب العرب ❤
7 يناير 2011 في 1:34 م
روعة يا منى
فعلا سرد مقنع واحاث مسلوبة من الواقع المرير
تحياتي