"شيدت ثلاث عمارات وعمارتك ما تعلو إلا لتخبو.. "
عبارة تقفز دائما إلى ذهني مع رنين الهاتف فتربكني.. وأمضي لأجيب أبي وأنا أنسج شتى التبريرات لأسد بها نبرة السخرية التي تصاحب كلماته.. اليوم وحده، لم أتكاسل عن التقاط السماعة ولم أبتلع ريقي لأستعد للرد.. بمرح طفولي ونشوة عارمة بادرته:
ـ قريبا ستلج عمارتي وتمرح في غرفها وتتدرج في طوابقها العشرين
وأضفت أقطع شريط أسئلته التي فجرتها مفاجأتي له بالخبر الذي كان ينتظره أكثر من انتظاره لحفيد من صلبي:
ـ لن أخبرك عنها شيئا.. سأتركها تبث إليك سحرها بنفسها..
ضحك ثم ختم مكالمته بصيغة جادة تلفها نبرات الفرحة قائلا:
ـ نفسي تحدثني أن جدتك فتنتك بسحر موهبتها قبل أن تدب الروح في جسدك..
شعرت بجسدي يسقط مني وأنا أسمع عبارته الأخيرة.. فرحت أوقظ جدتي من قبرها وأهوي عليها بسياطي وأعرفها بحقيقتها وحقيقتي التي يجهلها أبي.. لكن سرعان ما استقويت بكنزي الذي ما تزال رائحة الطباعة المنبعثة منه تسكرني.. فتماسكت وألجمت سياطي وأغمدت كل سيوفي.. فلم أصعق جدتي بحقيقة الجيل الجديد الذي لا تعرف عنه شيئا.. ولم أخبرها بأن البلاي ستايشن والإلكترونيات نسفت حكاياتها وأخرست ألسنة الجدات وأسدلت عليها ستارا من حجر.. بل حضنت إلي برهان حقيقتي وانتظرت بفارغ الصبر أن تشرق شمس الغد لألقيه في حضن أبي...
بعد زوال اليوم التالي، كنت في بيت أبي.. قصدت مباشرة غرفة الجلوس حيث يتناول غداءه.. أطلت من الباب أنقر بأصبعي على اسمي أعلى الغلاف وأخفي وجهي خلف روايتي.. قفز من زاويته بمرح شبابي وخطفها من يدي.. ثم ضمني إلى صدره بقوة ولم يحررني ويطلق سراحي حتى طقطقت عظامي وتفجرت تأوهاتي.. ثم أشار على أمي أن تتدبر أمر تلفوناته واختفى داخل غرفة نومه في الطابق الثاني..
بعد ساعتين تقريبا، سمعت صرير باب غرفته.. فقفزت من مكاني بمرح طفولي مشوب بقلق تلميذ مجد ينتَظِر نتيجة الامتحانات.. تقاطعت معه عند نهاية الدرج.. شحوب وجهه وابتسامته الباهتة ذوبا سؤالي الأول على لساني ليتفجر سؤالا ضمنته هلعي من شبح الموت الذي يزوره من حين لآخر:" هل اتصلت بالطبيب؟؟.. وهل شـربت دواءك؟.. و".. لفني بذراعه وضحك لي من أنفه يطمئنني عن سلامة كليتيه.. فدغدغت جانبه الأيمن وقلت له بدلال طفولي:
ـ إذن، ما سر هذا الشحوب؟؟ أكنت نائما أم كنت تقرأ روايتي؟؟..
أشار لي بأصبعيه إلى الجواب الثاني..
ـ هيه.. ما رأيك فيها؟؟.. أما زلت تقارن بيني وبين جدتي؟؟..
أخرس إصراري بأني سأعرف انطباعه يوم ينهيها بأكملها ثم مضى يتوضأ لصلاة العصر..
في اليوم الثاني كانت روايتي راقدة في مكتبته وفي أسفل جناح الروايات التي قرأها.. ضقت من الأمر حد الانزعاج.. ومع ذلك ظللت متمسكة بخيط رفيع من الأمل ألين به قلقي.. لعلها مزحة؟.. فليس معقولا أن تكون روايتي آخر ما استهواه من الروايات التي قرأها ؟؟.. سألته وأنا كلي أمل في انطباع جميل عنها.. تنهد وسكت مليا يخفي خيبة أمله التي تفضحها قسمات وجهه ثم أحاطني بذراعه وسار بي إلى حديقة البيت بخطوات موزونة مترعة بالخشوع.. وأنا منساقة وراءه كطفلة صغيرة صامتة أجتر امتعاضي وخيبتي كذلك العيد الذي أصرت جدتي ألا ألبس فيه غير الفستان الصوفي الذي نسجته يداها وحرمتني من ارتداء سروال دجين مع قميص فستقي اخترتهما بيدي..
دلفنا غرفة في أقصى الحديقة.. كل شيء فيها يرشني برائحة الماضي.. من عبق البخور حتى آخر قطعة فيها.. راحة يدوية، سجاد وفرش من صوف نسجته يدا جدتي، قصعة وأكواب وصحون من خزف وقدور مدخنة، وقنديل يتدلى من السقف.. جلسنا مقرفصين جنبا إلى جنب وأنا ذاهلة مستغربة من أمره ومن صمته الثقيل.. تعلقت عيناه بالقنديل الصغير المتدلي من السقف ويداه تداعبان مغزلي جدتي اللذين ما يزالان يحتفظان على كثير من الصوف بين أسنانهما.. فغاب وعلى شفتيه بسمة ملائكية وهو يقول كأنه يحدث شخصا آخرا غيري:
ـ هنا غزلت جدتك قصصا وروايات لم تكتب بعد...
ثم سكت وقد التمع ضوء قرمزي في عينيه السارحتين في البعيد كأنهما تستمدان النور من بؤرة ضوء لا أراها.. وانطلق لسانه يقطر كلمات بدا لي أنه يستوحيها من مصدر غيبي.. لم أعد أرى أمامي غير هيكل أبي مقرفصا إلى جانبي بينما هاجرته جوارحه إلى زمن بعيد وَلَجْتُهُ معه عبر كلماته: "جدتك، لم تسعفها أصابعها نقش رسم حرف.. لكنها نقشت في العقول سورا لم تزدها عواصف الزمن غير رسوخ.. تقبض عليك من أول الكلمات وتسحبك وراءها كظلها.. تجوب بك عوالمها دربا دربا.. تغسلك بالفصول الأربعة دفعة واحدة.. تقبض روحك ثم ترخيها بعدما تغسلها بأمطارها.. تصمت تحدق إلى وجهك مبتسمة حتى تستيقظ لتقتحم بك دهاليز أخرى تملك وحدها خريطتها.. فتنتَبهُ إلى حالك كيف صرت لعبة في يدها.. تتيقظ تتابع مسار عينيها تأمل أن تسبقها وتتجسس على عالمها الزاخر بالغرائب والمفاجآت.. ترف على شفتيها ابتسامة استخفاف وتقبض عليك مرة أخرى وتسحبك وراءها بخيوط تأسر جوارحك وأطرافك ولا تطلق سراحك إلا وأنت شخص من شخوص حكاياتها.. فتظل وقتا تفك خيوطا وهمية ضربتها حولك.. فقد تفيق وقد تظل ساكنا عالمها أبدا......"
استشعرت خيوط شباك جدتي تسحبني.. وقبل أن تأسر جوارحي كما أسرت أبي، استللت نفسي من عوالمها وعيناي دامعتان.. دموع حسرة وألم على شموع قبرت في دهاليز الحياة قبل أن تبتلعها الحفر إلى الأبد.. ومن يومها نذرت قلمي لجمع أشتات عوالم جدتي لأعيد تشييد صروح قصورها بكل ما أتيت من دهاء وحنكة.. فكنت المهندسة والبناءة وكان أبي الرقيب.. وكلما تجسدت لي غرفة في قصر من قصور جدتي الكثيرة وصادق عليها أبي، مضينا معا لنغرس وردة على قبرها.. واليوم، أتممت قصرها الأول فأشعلنا شمعة على شاهد قبرها.. أبهرني اسمها المضيء لعيني واعتراني أمل بوهج شمس منتصف النهار في أن أشعل شمعة أخرى قبل أن تنطفئ الأولى...
فجأة، والبهجة تغمرني، تقافزت لي كثير من رياض تشبه روضة جدتي.. حياة أخرى تبثها لعيني كثير من القبور البعيدة وتهيج شلال الحروف في ذهني.. كدت ألفت إليها انتباه أبي.. أغمضت عيني لأستيقن مما أرى، فإذا بي أفتحهما على سكون مطبق وظلام زاحف كاد يمسح كل حروفي لولا ضوء شمعتي الصغيرة التي تتحدى بقوة خارقة الأنفاس المتضافرة على إطفائها...
***
مع خالص تحياتي سمية
❤ مدونة قلب العرب ❤
13 يناير 2011 في 10:10 ص
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أختي الغالية/ حاولت التعليق في التواصل معنا فلم أستطع فاسمحيلي بوضعها هنا.
أولاً أختي تشرفت بتعليقك ِالرائع في مدونتي كنوز القمم.
وأشكرك على هذا الإبداع في هذه المدونة في التصميم وفي الافكار وفي الألوان ومع أن اللون الأحمر له استخدامات معينة في مواضيع محددة لكنه هنا في المدونة رائع جداً خاصة أنه متدرج مع البني وأيضاً خلفية المعينات فيه جميلة جداً ولم تنزعج عينه منه ومع الألوان الأخرى.
رسالة إعجاب لهذه المدونة من حيث التصميم والألوان أما فكرة أوراق الدفتر فهي راقية وواضح أنكي تحبين الدفاتر والملازم والمذاكرة هههه.
أما من ناحية المواضيع فلي عودة بإذن الله.
تقبلي فائق احترامي وتقديري لهذا الإبداع. وانا لا أجامل يا أختي.