كان البرد قارص وبقايا من رذاذ المطر وسكون الليل يلف
الشارع وبعض من أصوات يتردد صداها هنا وهناك ،
في الأسفل قطة صغيرة تختبئ في حاوية القمامة بحثا عن طعام
عابثة لتتشكل منها دوامات من ورق ، خطوات ثقيلة تجر
صاحبها المتمايل المخمور وصوته الأجش يرعب غفوة الليل
يتغنى بأغنية لا ملامح لها ، يستند علي ثم يتهالك جسده على
الأرض بعد أن فقدت قدميه القدرة على التأرجح معه،
تحت بقعة ضوئي انكشفت صورة وجه محتقن في العقد الأوسط
من العمر حفر الزمن والألم أثاره على صفحة بشرته المنهكة
،عادت بي الذاكرة عندما كان هذا الجسم المتهالك رجلا يملأ
الحي بصراخه ,الكل يهابه ويتجنب الإصطدام به،
في كل صباح كان يخرج من منزله المتوسط بين بقية المنازل
ويقف عند الباب متلفتا يُمنة ويُسرة وكأنه يبحث عن شيء
فقده وبيده عصا صغيرة يهزها باستمرار من يراه يظن أنه
يتوعده بها ، ومما يزيد من سطوته ,البدلة العسكرية
التي يرتديها ذات اللون البني والأزرار الذهبية البراقة ، وحذاؤه
الضخم الأسود الذي يدك به الأرض كلما خطا عليها
حتى قطط الشارع تهرب عند سماعها لصوته الراعد أو خطواته
القوية ، لم يسلم من جبروته إنسان ، والحظ الأوفر
من نصيب أهل بيته فزوجته ذات الجسم الضامر والعينين
الغائرتين ينبؤك وجهها عن مدى بؤسها وقلة حيلتها ،
أماالإبن البكر فهو نسخة عن أبيه في الشكل الخارجي فقط ورث
نفس الضخامة وملامح الوجه ولكن له قلب عطوف
ونفس طيبة وإن وجد صعوبة في التواصل مع سكان الحي بسبب
إنتمائه لذاك الأب المتسلط ، أما البنت فهي مفتقرة
للجمال بوجهها النحيل الطويل وأنفها الكبير وعينيها التي تشبه
عين أمها وقوامها المائل للنحافة ، وهذا ما تسبب في
حقدها على بنات جنسها فهي محرومة مما يتمتعن به من حُسن
ودلال ، وكيف لها أن تعرف طريق الدلال وهي
تربت في بيت كله قسوة وكبت ، حتى تعليمها لم تكمله برغبة من
أبيها الذي رأى بأنها أخذت كفايتها من العلم وعليها
التفرغ لأعمال البيت وانتظار العريس . من أين يأتي هذا العريس
وهي لا تغادر منزلها ولا تتحلى بشيء من الجمال؟!
وكل يوم تسمع زغاريد في بيت من بيوت الحي معلنة عن خطبة
فتاة . كرهت أباها لظلمه وكرهت أمها لضعفها
ولامت أخاها على سلبيته وكرهت نفسها لحظها العاثر في
الحياة .
إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه البنت أن تضع حد لمعاناتها من
الظلم والقهر الممارس عليها ، وفي ليلة شديدة العتمة وكان
ضوئي غائب شاهدت شبح يخرج من باب منزل ويتلفت حوله
وكأنه يخشى أن يراه أحد إنه طيف فتاة تحمل بيدها حقيبة
صغيرة وأسرعت الخطى نحو زاوية الشارع وهناك كان في
انتظارها شبح آخر ما أن اقتربت منه حتى تناول الحقيبة
منها وامسك بيدها وكأنه يخاف أن تعود عن قرارها وغابوا عن
الحي ، وعند الصباح الباكر وقبل شروق الشمس تعالت صرخات
من منزل الرجل المستبد إنه صوت الأم وهي تبكي وتصرخ
بكلمات غير مفهومة هرع الجيران إليهم ليجدوا الأم تلطم خدها
وعويلها يقطع القلوب والأب في حالة هياج ويشتم ويتوعد والإبن
يحاول أن يهديء من روع أمه وخرج الأب من المنزل والغضب
يملأ جسده وهنا تمكن الجيران من تهدئة الأم وأخذت تروي لهم
ما حدث أنه استيقظت من النوم وكعادتها تذهب وتوقظ إبنتها
لتساعدها في إعداد وجبة الفطار وعندما دخلت حجرتها لم تجدها
نائمة على السرير كما هو معتاد أعتقدت أنها استقظت باكرا
بحثت عنها في أرجاء البيت لم تجدها أصابها الهلع هرولت إلى
الأب لتوقظه وتخبره عن إختفاء إبنتهم هب الأب مفزوعاً وأخذ
يشتم الأم ويوقظ الإبن ودخل إلى غرفة الإبنة وتفقد في حاجياتها
فلم يجد ملابسها وهنا تيقن أنه لم يحدث لها مكروه ولكنها هربت
وجن جنونه وأخذ يصب غضبه على زوجته الباكية وإبنه
المذهول الذي لم يستوعب ما حدث لأخته بعد، وفي المساء عاد
الأب بمفرده وهو متعب مهزوم واستمر على هذا المنوال لمدة
شهر يخرج في الصباح الباكر ويعود آخر الليل وكل يوم يزداد
حزنه وإنهزامه إلى أن عاد ذات مساء كسير النفس مطأطيء
الرأس وكأن مصيبة أصابته أو فاجعة نزلت عليه وعندما حاولت
الزوجة أن تستفهم منه صرخ فيها وقام بضربها ثم أنزوى في
حجرته وهو يبكي كالطفل الصغير ، إنهار ذلك الصرح الكبير
تحطم التمثال الصلب تهاوى كل جبروته ، ومنذ ذلك اليوم لم يعد
يراه أحد يخرج من بيته نهاراً أصبح من رواد الليل والخمارات ،
عندما يسدل الليل ستاره يخرج متدثرا في معطفه الذي لايفارقه
في صيف أو شتاء وكأنه يختبيء بداخله عن أعين الناس
ويعود قبيل الفجر وهو يجر جسده الضخم الذي فقد كثيرا من
عنفوانه ليرمي به هنا تحتي في انتظارها ،وهنا
تخرج امرأة نحيلة طويلة متلحفة بالسواد من باب منزل قريب
لتمسك بيد الرجل وتشده خلفها كأنه طفل ضل طريقه وهي
تردد عبارات سخط مخنوقة خوفا من أن يسمعها الجيران ، نفس
المشهد يتكرر منذ سنوات ولا زالت تخشى أن يراهم أحد.
ولكن هذه الليلة كان حزنه أكبر من إحتماله شعرت به يتهاوى
ضعفاً وكأن هذه الليلة هي ليلته الأخيرة التي أراه فيها
كانت نظراته كمن يودع الشارع الذي عاش فيه مجده وسلطته
وأقسم أني رأيت دمعة تسقط على خده وهو يمشي خلف زوجته
وينظر خلفه كمن يسجل صورة لمشهد أخير .
عاد الهدوء للشارع وعدت لتأملاتي في حال الدنيا ولعبتها مع
الناس ، يوقظني من سكوني صوت رضيع يحث أمه
على الإستيقاظ لتسد جوعه بلبن دافيء في ليلة شتاء باردة وهي
تهدهده بصوتها الناعس وتضمه إلى صدرها، وأنا كما أنا
واقفا هنا لا أذكر منذ متى ربما من أول ما وجد الحي ، اليوم
أصابني بعض الوهن فضوئي تارة يخبو وتارة يشتد ربما
هي أعراض الشيخوخة لم أعد أحتمل برد الشتاء وقسوة البشر ،
أنير ظلامهم وأضيء دروبهم ولكن لا يرفعوا أعينهم إلي
إلا إذا غاب ضوئي وأشتدت عتمتهم فحينها تتعالى أصواتهم
بالشتم والسباب وعن رغبتهم في استبدالي بعمود جديد .
وبدأت تباشير الصباح تلوح في الأفق معلنة عن سحب ستائر
الظلام وسطوع ضوء نهار آخر ، وحانت ساعة راحتي
وأنطفأ نوري وسكن جسدي .
مع تحيات دليل الساري
❤ مدونة قلب العرب ❤