twitter


غلاف رواية العطر 
كانت قراءة رواية العطر بالنسبة لي تجربة نفسية بديعة ، بطلها إنسان من نوع جديد ، خط سير حياته شاحب كئيب .
والأسئلة التي تحاول الرواية – لا الإجابة عليها – و لكن دفعك للتأمل فيها هي تلك الأسئلة التي تفصل بين الوجود والعدم : من نكون حقا ؟..ما المبرر لوجودنا ؟ ما الذي يسعدنا فعلا ؟
غرينوي ، و هو بطل الرواية ، يمتلك حاسة شم عجيبة ، يشم كل شيء على بعد أميال و ينسب أي رائحة تمر على أنفه إلى أصلها و يعرف كيف يؤثر بالروائح على الناس ، إلا أنه غير قادر على شم نفسه لأنه عديم الرائحة .
( لكن قدرته ليست قادرة على شيء واحد ، ليست قادرة على تجعله يشم نفسه ، وليرفعه عطره إلها بين الناس ، فما نفعه إن لم يشم ذاته ولم يعرف من هو )
 وما كان يقوده في الرواية هو سعيه لأن يشم ذاته و أن يعطي لنفسه رائحة ، في إسقاط لرغبته الشديدة لإدراك هويته وفهم ذاته و أن لحياته معنا أو هدفا أو مقصد ، فلا أحد يفهم دواخله ، ولا هو مكترث بأن يفهمه أحد ، داخله فقط هو الذي يحركه دون أن يلتفت لشهرة أو جاه أو مال أو قبول من الناس .
واكتفى بذاته ، واعتزل في المغارة مستنكفا ( و إنما استنكف لأجل ذاته ، ليدنو من ذاته ، سبح في كينونته الذاتية )
لم يجلب له حب الناس مسحة من السعادة ( إنه يحيا في هذه البرهة أعظم انتصارات حياته  ، وشعر بالهول ! شعر بالهول لأنه لم يتمتع بثانية واحدة من النصر العظيم!! ) ، (فما كان يحلم به ، حب الناس ، صار في لحظة النصر عبئا لا يطاق! ) لأنه ( الوحيد الذي يعرف جماله الحقيقي – العطر – وفي الآن ذاته الوحيد الذي لا يسحر به !! أنا الوحيد الذي لا يجد له قيمة!!! )
ولم يكن المال ليروي نزرا يسيرا من ظمأه الوجداني فـ ( طموحه ليس كسب النقود بفنه ، كل ما يريده هو التعبير عن داخله وليس شيئا آخر ، عن داخله الذي يعتبره أروع ما يقدمه للعالم الخارجي )
ظلت روحه قاعا صفصفا فلا المال ولا الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أن يشتريه المال وهو حب الناس يستطيع أن يجلب السعادة لغرينوي ، فما الذي يسعدنا كبشر حقا ؟ و لتبيِن إجابة شافية لا بد من الالتفات إلى دواخلنا و نفوسنا وإعطائها حقها من الرعاية والعناية ، وما جعلني أشفق على غرينوي رغم أنه يجسد شخصية قاتل سفاح عديم الرحمة  ليس أنه عاش حياته معذبا معدما ، بل أنه قضى نحبه دون أن يدرك المبرر لوجوده والغاية من رحلته .
وفي هذه العاقبة المحزنة عبرة حتي يدنو كل امرئ من ذاته و يخلو بها ثم يعرفها جيدا و يبحث عما يسعدها فعلا ، فالبعض منا يمضي حياته يعمل عملا لا يطيقه ، ليشتري أشياء لا يحتاجها ، لينال بها إعجاب أشخاص لا يحبهم ، ويظن نفسه بذلك سعيدا !
لا شك و لا عك أن غرينوي أبدى إصرارا مذهلا وعزما عظيما لتحقيق أسطورته الشخصية وسط الظروف الصعبة والحياة القاسية التي عاناها الأمر الذي يعيد للأذهان السؤال العتيق ذاته : هل القادة والعباقرة والمبدعون يولدون أم يصنعون ؟
فبين القائلين بأن صفات العبقرية والموهبة و الإبداع أشياء تودع فينا بالفطرة و أن البيئة التي نولد فيها هي التي تؤدي لنبوغ العباقرة و الموهوبين وبين القائلين بأن العبقري يصنع نفسه بنفسه ، وتلك الصفات مكتسبة بغض النظر عن الظروف ، تقدم الرواية مزيجا مركبا لا تناقض فيه بين التفسيرين ، نعم ولد غرينوي بحاسة شم عجيبة و موهبة ربانية ، بيد أنه في الآن ذاته ولد في ظروف قاسية ، وتربى في ظروف أشد قساوة ، لكنه حفر طريقه بإبرة بين الجبال ليصل القمة ويثبت لنفسه أنه النبته الأقدر على النمو في الظروف الأصعب و تحمل الجفاف و التصحر .
بالمقابل كثير من القواعد من “النساء و الرجال” يولدون بمواهب مستترة يودعها الله فيهم ، غير أنها تضمر بفعل الإهمال وعدم الاستعمال ، بفعل عدم الفعل ، بفعل التعلل بالظروف القاهرة والتحديات الصعبة !
مع الإشارة أن غرينوي ينسب الفضل في نبوغه لنفسه فقط ( لقد أوجد لنفسه هالة أشرق و أقوى أثرا مما لبشر من قبله ، ولا يعود الفضل فيها على أحد ، لا على أب ، لا على أم ، ولا على إله رحيم ) فهو لا يعرف الرب كما يروي الكاتب ( دخل عليه قس ليتناول منه اعترافه الأخير ، غير أنه خرج بعد ربع ساعة خائبا قائلا إن المدان نظر إليه أثناء ذكر اسم الرب نظرة استغراب ، كأنه يسمع الاسم للمرة الأولى ! )
لقد برع الكاتب في تصوير أعماق و هواجس كل شخصية والصراع الداخلي الذي يكتنفها ، و لو أنه أسهب قليلا  في توصيف العطور وطريقة استخلاصها الأمر اللي جعلني أشعر بالملل في بعض الفقرات ، لكن في نفس الوقت إلمام المؤلف بكل هذه التفاصيل أمر يبعث على الدهشة !! اللهم إلا إن كان عطارا محترفا !
و كم نتمنى أن يميل الأدب والفن العربي إلى تجاوز الاعمال التقليدية التي تركز وبشدة على موضوع واحد ، شاب أحب فتاة وحالت بينهما الفوارق الطبقية والاجتماعية ! والانتقال بها إلى فضاء أرحب ، فتنتشل الفرد من واقعه وتهز كيانه وتدفعه للتأمل في العجائب الكامنة في صلب النفس البشرية
ودمتم بخير
كتبت بواسطة اخوكم ( محمود أبوصيام)
❤ مدونة قلب العرب ❤

0 التعليقات:

إرسال تعليق

أخي \ أختي في الله ... تذكر(ي) دائما
قوله تعالى : ( مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيد )