الليلة جلست على مقعدي المعتاد أتابع التلفزيون متنقلة من قناة لأخرى بدون اهتمام هذا ما أمارسه يوميا بعد تناولي وجبتي الوحيدة في اليوم ، حين أعود من العمل استبدل ملابسي أطهو طعامي وأطعم قطتي وأقوم ببعض الأعمال المنزلية ، ثم اتناول طعامي بشكل آلي لا أتذوق له نكهة ولا أتلذذ به ما يجبرني على الأكل هو ما يمدني به من طاقة على القيام بالأعمال اليومية الروتينية.
آخر وجبة تناولتها بلذة ومتعة كانت مع أمي وأبي وأنا في الثامنة من عمري ، أذكر أمي وهي تعد الطعام بفرح وصوتها يملأ أركان البيت بالغناء وحركتها الرشيقة المتنقلة في ارجاء المطبخ ، كنت اراقبها وكأنها تعزف لحن جميل لم أشعر يوماً أنها تطبخ أو تنظف دوماً كانت تشعرك أنها تمارس هواية ممتعة بروحها المرحة ومظهرها المتألق ، وانتظرأن تطلب مني مساعدتها في ترتيب أطباق الطعام حتى أقفز فرحا وأركض لتنفيذ الأمر.
وحين يدخل أبي من الباب اتسابق أنا وأمي لإستقباله ومن منا يصل إليه ويقبله أولاً ، ويغرق أبي في الضحك ويحاول أن يتماسك أمام هجومنا المحبب لقلبه .
لا انسى ذلك اليوم حين استيقظت في يوم الإجازة المدرسية وجدت أمي و أبي قد ارتدوا ملابسهم مستعدين للخروج ، نظرت لهم مستغرباً هل كانوا سيتركوني وحيداً في البيت وسألتهم: إلي أين يذهبون أخبرتني أمي أن عليهم الذهاب للقيام ببعض الأمور الخاصة ولن يتأخروا ، وأن جارتنا ستقوم برعايتي أثناء غيابهم الذي لن يطول ، قبلني كلاً من أمي و أبي ثم أنصرفوا وركضت إلى النافذة أتابعهم بنظراتي وهم يستقلون السيارة وقبل أن ينطلقوا لوحت لي أمي مبتسمة وقالت لي: ابقي بالمنزل ولا تخرجي إلى أن نعود فهززت برأسي علامة الموافقة ولم يكن في نيتي أن أخرج من البيت لقد أنتابني شعور غريب هذا الصباح فلم أعتاد خروجهم بدوني ، وماهي إلا دقائق حتى دخلت جارتنا بوجهها العبوس واللفافات تملأ شعرها الفاقع اللون وجلست على مقعد أمي ثم سألتني: هل تناولتي فطورك ؟ قلت لها : ليس بعد ويمكنني الإهتمام بنفسي ، ثم انزويت في غرفتي أنظر لألعابي وكتبي ولا رغبة لي في تناول الطعام أو الحديث مع جارتنا التي بدأت في متابعة التلفزيون بصوت مرتفع ، مرت ساعتين ولم يعودوا وغلبني النعاس فنمت على سريري إلى أن استيقظت على جرس الباب قفزت من مكاني مسرعة لمعرفة من على الباب لأني أعلم أنه لو كان أبي و أمي لما احتاجوا لإستعمال الجرس ، فتحت لأجد أمامي شرطي وعندما رآني اغتصب إبتسامة صغيرة وسألني: هل هناك شخص آخر بالبيت ؟ هنا تنبهت جارتنا لوجود زائر واخفضت صوت التلفزيون ووقفت بقربي وعلى وجهها تساؤل ، القى عليها التحية وبادر بقوله: هل هذا منزل السيد ... وذكر اسم أبي فأسرعت للرد عليه بالإيجاب رفع نظره عني وأعاد عينه على جارتنا وأخبرها أن السيد والسيده قد تعرضوا لحادث منذ ساعة على الطريق العام ونقلوا للمستشفى وهناك فارق الإثنان الحياة .
هول الصدمة أفقدني القدرة على متابعة ما قاله الشرطي بعد ذلك من حديث وأصبحت أصواتهم بعيدة عني وسقطت أرضاً مغشياً علي ، استفقت فوجدت نفسي فوق سريري وقد حل الظلام وبصيص ضوء يتسلل من تحت الباب وبعض الأصوات التي تتهامس بالحديث ، لم أجروء على الحركة أو الخروج من غرفتي كنت أعتقد أن كل ما حدث اليوم هو مجرد كابوس مخيف وسوف استيقظ منه وأجد أمي و أبي أمامي وأخبرهم عن حلمي المزعج وحضنهم يطمئني ويهديء من روعي ، ولكن للأسف لم استيقظ من كابوسي أبداً وما مر عليَ بعد ذلك كان سلسلة من الكوابيس المتتالية على مدار سنوات حتى وجدت نفسي وأنا أعيش وحيدة في شقة من غرفة واحدة خلفية تطل نافذتها على الأسطح والمداخن وأعمل بوظيفة بسيطة في مكتبة صغيرة براتب هزيل لا يسد احتياجات الحياة الضرورية .
لا أعرف سبب توالي الذكريات هذا المساء ربما هو الجو الماطر الذي يرافق فصل الخريف قد أشعرني بمدى كآبة حياتي و خلوها من السعادة التي ماتت بموت والدي .
رنين الهاتف أعادني لواقعي الباهت رفعت سماعة الهاتف وتلقائياً قلت: من يتكلم ، جاوبني صوت رخيم رجولي : هل حنين موجوده ؟ أخبرته أن لا وجود لمن تسمى حنين هنا ! اعتذر عن الخطأ في الإتصال واقفل الخط ، وعدت لمتابعة الفيلم الذي لم أفقه منه شيء ، وعاد رنين الهاتف يعلو وكان نفس الصوت الرخيم وعندما سمع صوتي كرر اعتذاره وأخذ يؤكد أن هذا الرقم هو لحبيبته حنين التي هجرته من مدة وقد زودته به صديقة مشتركة وهو يعلم أنها غاضبة وليس عليها أن تنكر نفسها منه وسألني: هل أنتي صديقتها في السكن ؟ أكدت له أني أعيش في هذه الشقة منذ سنوات بمفردي ولا أعلم إن كانت هناك من تدعى حنين في البناية كلها ، وشعرت بنبرة صوته الحزينة التي حاول أن يداري بها خيبة أمله في العثور على حبيبته ، وجدتني أسأله عن سبب غضبها منه وأين يمكن أن تكون قد اختفت وكأنه في انتظار سؤالي فأخذ يروي لي عن قصته معها منذ رآها أول يوم في العمل وكيف سحرته بجمال عينيها الخضراء التي لم يستطع مقاومتها وهكذا دار بيننا الحديث إلى أن بدأ نور الصباح يدخل من خلال الستائر المسدلة على النافذة وتوقف هطول المطر ومن وقت لآخر كنت اسمع صوت ضحكاته وهو يحكي بعض المواقف الطريفة له مع حنين وأنا شيئاً فشيئاً تتعالى ضحكاتي وتفاعلي مع رواياته شعرت أني مازلت على قيد الحياة لم أشعر بمثل هذا الإحساس من سنوات طويلة ، ورانت لحظة صمت كرهتها كرهت أن يتوقف عن الحديث كان لصوته نبرة عذبة تغلغلت في روحي وقطعه بسؤاله عن اسمي وأنه يتكلم معي لساعات ولا يعرف من أنا أخبرته أني أدعى حلا قال: ما أجمله من اسم أنا موقن أنك جميلة كإسمك وصوتك ، شعرت بحرارة تتدفق في وجنتي وبسخونة يدي رغم برودة الجو ، همست بحياء : هذا اطراء لا استحقه فسمعت رنة ضحكته الخلابة وهو يقول: لا أشك لحظة واحدة أن الإحمرار يعلو وجهك ، لم أعرف بماذا أرد عليه فبادرني بقوله: هل أستطيع أن أعاود الإتصال غداً في نفس التوقيت ..؟ خفق قلبي فرحاً بسؤاله وقلت : بالتاكيد أنا هنا دوماً لأستمع إليك حين تحتاجني ، شكرني على لطفي وهنا تشجعت وأخبرته أنه لم يذكر لي اسمه جاء صوته مصحوباً بضحكة خافته : رائد هذا هو اسمي وهنا سمعت صوت جرس الباب قال: هل تنتظري أحداً في مثل هذا الصباح الباكر..؟ ، قلت مستغربة : لا انتظر زائراً في أيَ وقت من اليوم ..! استاذنك لحظة لأرى من على الباب وضعت سماعة الهاتف على المقعد ونظرت من العين االزجاجية في الباب لأجد رجلاً يرتدي ملابس عامل فتحت ونظرت له متسائلة : كيف يمكن أن أخدمك ، القى التحية وقال : أنا عامل الهاتف جئت لإصلاح العطل ، ابتسمت وقلت له: ولكن الهاتف يعمل بصورة جيدة ، ارتسمت الدهشة على وجهه وأخبرني أن المسؤول عن الصيانة أخبر شركة الهاتف منذ يومين أن هناك عطل عام بهواتف سكان البناية ، نظرت له بتهكم وقلت له : تعال لتتأكد طوال الليل وأنا اتحدث بالهاتف وأمسكت بالسماعة وناولته إياها هيا اسمع بنفسك ، أخذها من يدي وضعها على أذنه وأخذ يردد:الووو الووو ثم أعاد لي السماعة وهو يقول لا يوجد أحد على الطرف الآخر خطفتها منه وأخذت اصرخ : الووو الووو رائد أين أنت الووو .... أخبره أننا كنا نتحدث لساعات ..... أخبره عن حنيين وعن جمال عينيها .... اسمعه صوتك الساحر الوووو ولكن لا مجيب لا أسمع سوى صدى كلماتي المتألمة وتراجع الرجل خطوات للخلف نظرت له وجدت الشفقة مرسومة على ملامحه تذكرت ... أعرف هذه النظرات رأيتها في وجوه الناس يوم فقدت أمي و أبي ، أرخى عينيه وهمس : سيدتي ربما كنت تحلمين الهاتف معطل من الشركة منذ يومين ولا يمكن أن تكوني تحدثتي خلال هذا الوقت مع أحد .
زاغت نظراتي تشوش تفكيري أصابني هلع شديد لم أعد أحتمل فقدان سعادتي مرة اخرى وتهاويت على المقعد وسقطت السماعة من يدي ،و فقت بعد لحظات على مواء قطتي التي قفزت في حضني وأخذت تلعق وجهي طلباً للطعام وصوت العامل وهو يخبرني أن الهاتف يعمل بشكل جيد وتمنى لي يوم سعيد ثم خرج وأغلق الباب خلفه .
مع تحيات منيرة حسين ❤ مدونة قلب العرب ❤
4 مارس 2011 في 10:49 م
مدونة جد جميلة اتمنى لك التوفيق
لقد تابعتك اتمنى ان تشاطريني الزيارة في مدونتي المتنوعة
www.9odwa.blogspot.com